شعرتُ برجْفةٍ عنيفةٍ سَرتْ في كلِّ جَسدِها لتنتقل لجسدِي، رجفة أخافتني بقدِر ما لم أفهمها،
لكنها ظلتْ تعانقني و دُموعُها تتابعُ تبليلَ قميصِي في لا مبالاةٍ رائعة، و أردفتُ أقولُ لها هامساً :".. و لكنني أعشقكِ صفاء"
كانتْ هذهِ هي الحقيقة، لكنها انسحبتْ و جلستْ على الكرسي الخشبي ،و انفجرتْ بالبكاء..
كانتْ أنفاسي مُتعبة، و بدأ صَدري يتقلصُ بعنفٍ مسبباً لي الكثيرَ من الألمِ الذي صارعتهُ حتى لا يرتسِمَ على مَلامحي،
جلستُ بالمقربة مِنها.. يتقاذفني الشعورُ بالذنبِ و الخوفِ و الألمْ..
تركتها تجْمعُ أنفاسَها لِتصرُخَ فجأة ً وبصَوتٍ يمتزجُ بالبكاء:
" أنا لا أستحقُ عِشقك.."، ثم أردفتْ بصوتٍ متعبٍ خافِتْ " أنا لستُ مخلصة لك.."
شعرتُ فجأة ً بأن خيوطَ الواقع بدأتْ تخترقُ حُلمي الجميل، لكنني هدَّأتُ من اضطرابي و استمعتُ إليها إلى آخر كلمةٍ قالتها : "..بعدَ ثلاثة أشهر سيتم زواجي من رجلٍ يريدهُ والداي، و أنا لستُ الفتاة التي تعودَتْ أن تقفَ في وجهِ قراراتِ والِديْها و أنا الوحيدة لهُما.."
كنتُ أشعرُ أنُّ خلفَ هذهِ الدموع المُنتحِرة.. هُـناكَ تضحية ٌ ما، لكن، إلى هذهِ اللحظة لا أدري ما هي !
ثم ارتفعتْ نبرة صَوتِها تـُحاولُ امتصاصَ صدى بُكائها المسترسَل: "..نعمْ سأكون لرجلٍ ليس أنتْ، و سأقبلُ بهِ لستُ مكرهة، و لكنْ تلبية ً لنداءِ من ربياني.. فلا تقل تعشقني، بل قل تكرهني و دعني أمضي مُرتاحة البال.."
كنتُ أنظرُ إليها و كأني في كل اللحظاتِ السابقة، كنتُ أعيشُ هدوءَ ما قبل العاصفة،
لا أنكر أني لم أتلقى مفاجأة ً من حديثها، فأنا أومنُ أن السماءَ لا تمطرُ ذهباً، و أن تأتي يوماَ عندك فتاة لطالما حلـُمتَ بها، و سهرتَ اللّيالي ترقبُ يوم تراها ولو لمجردِ لحظات،تأتي و تجلسُ بالقرب منك و دموعُها تُترجم بصدقٍ حُرقة مشاعرها، لا يمكنُ أن يكون ثمنهُ أقل من فراقِكما،
ابتسمتُ لها و حوُُّّلت نظري باتجاه البُحيْـرَة، التي بدَتْ لي غارقة مثلي في الحُزن و الضياع،
ثم وقفتُ مُبتعِداً خطوة ً عنها، و خاطبتها كما لوْ أني أخاطبها في خيالي، تاركاً نظراتي تتجاوز صفحة البُحيرة، لتترجمَ على لساني خطاباً جريح:
" عزيزتي، يكفيني أن أعرفَ أن سَهري لتلك الليالي الطِـّوال، و عِشقي لفتاة رائعةٍ مثلكِ لم يذهبْ سُدىً؛ فعلى الأقل تحْمِلينَ لي في قلبكِ ركناً ولو صَغيراً، لا أوصيكِ بأن تعتني بهِ في غيابي ،بلِ اهجُريـهِ حتى يصيرَ أطلالاً، و اجعليهِ ذلك البيتَ الذي عِشتِ فِيه الطفولة، و باعهُ الزمنْ و هُدمَ و بُنيتْ فوقهُ المساكنْ ..ثم طواهُ النسيان..، تكفيني منكِ تلك الذكرى الضبابيَة التي سوف تحملينها لهُ بصِدق، و اعلمي أنني أعشقكِ.. و هذا ليس عَيْبـاً..، و لا يفترضُ بالضرورة، أن أجْبركِ على رفض أحد..، إذ في خِضَمِّ كلِّ هذهِ الأحداث، سَيُعزِّيني أنكِ و لو في لحظةٍ، بادلتني شعورَ ودٍ صادِق.."
صَمَتّ ُ للحظة و تابعتُ قائلا ً :" تعلمين صفاء، كنتُ و لم أزل أومن بوجودِ شيءٍ غريبٍ يقفُ حاجزاً أمام اجتماعِنا، و لكنهُ الواقع..،
و بغضِ النَّظر عن كلِّ شيء، تذكري أن مُبادرتكِ هذِه، ستُنقشُ في قلبي نقشاً خالدا ً، و لو بيدي أن أجمعَ كلُّ كلامِ العشقِِ أصيحُ بهِ في المدينة، اعترافاً بعشقي و إجلالاً لكِ، ما كفتْ سعادتي بمقدمكِ عندي.."
استدرتُ نحوها مُحاولاً نسْج كلامٍ يوقفُ تلك الدموع َ التي كانتْ تذبحُ صدري بدون أن تدْري،
" لا تبكي صفـاء، فالسماءُ مَهْمَا غيَّمتْ، فإنـّما لأنها تستعدُ ليوم صافٍ مُشرق..، هكذا الحياة، فهي كلما صدمتنا بالحزنِ و الألم، فإنـّما لأنها تعدّ ُ لنا أفراحاً و مفاجآتْ لا يجبُ أن نستهين بها،
و تذكري أنهُ مثلما تعوُّدْتُ أن أرسُمكِ في خيالي و أعيشَ بكِ كلُّ الشهور الماضية، أستطيعُ و بقوة الآن، أن أعيش بهذا اللقاء بقية حياتي..،
أعشقكِ، و هذا ليسَ عيباً أو ضُعفاً و لا هو التزام ، فأنتِ في حياتكِ حُرة، و أن تكوني بارةَ الوالدين، فهو بقدر ما يؤلمني لأنه سيفرقنا، فهو يُسعدني؛ لأنك تضيفين لخصالِك الرائعة، خِصلة أحبُ أن تكونَ عليها صفـاء،"
بعد لحظاتِ صمتٍ خلتُ فيهِ أن الحديقة تجمدتْ من كلِّ ما سمعتْ منا،
شعرتُ بالتعبْ و بأنني قد أنهارُ في أيُّـة لحظة، لِذا جلستُ آخذا مكاني بقربها و طلبتُ مِنها أن تغادر،
كنتُ أدري أنها قد صُدِمتْ من طلبي، و لكنها أدركَتْ أنهُ لم يَعُـدْ هناك شيءٌ يُـقال، بعد لحظاتٍ من الترددْ.. ناولتني قلادة ً طلبتْ مني الاحتفاظ بها، لكنني لم أستطع إلاّ أن أرفضها، فاستدرَكتْ قائـلة ً: " حسنٌ..نسيتُ أنهُ سيأتي اليوم، الذي فيهِ سوف تقترنُ بأخرى، و لا معنى أن تحتفظ بأي ذكرى مني.. "،
كنتُ أدري أنها تحتاجُ مني أن أقول لها لا، و لكن قلبي كان يُريدُها أن تغادر قبل أن يخذلني صدري الموجوع فأنهار أمامها،
لذا أجبتُ في برودٍ كنتُ واثقا من أنهُ سَيجْـرَحُهـَا، بلْ و قد يُشكِكها في صِدقِ مشاعري نحوها :" أكيد، فهذهِ هي سُنة الحياة.. و لربما يكونُ ذلك قريباً "
وقفـتْ و بدونِ أن تنظر إليَ سألتني:" تريد أن تقول شيئا قبل أن أنفذ طلبك..؟"
أجبتْ: " نعم، كوني أكيـدَة أنني سأدعو لكِ بالسّعـادة.."
و قبل أن تكمل خطوتها الثانية مغادِرة ً، استوقفتها قائلاً: "صفاء..! عندي لكِ رجاء" فتوقفتْ من دُونِ أن تستديرَ نحوي،
و أكملت : " أطلبي الله ما بقي لكِ من العُمر، أن يغفرَ لنا ما كان مِنـُّا في هذا اللقاء"
وغادرتْ من دون أن تستدير لأرى ملامحها.. ولو لآخِر مرة، و حين تعثرتْ في حَجَرَة، أدركتُ أنها لم تنتبه لخطواتها لأن عينيها كانتا غارقتينِ في الدموع، و بلا وعْي أنشدتُ بصمتْ، كلمَات من أغنيةٍ سَالتْ عليها دُموعي بهدوء:
" وَ مَشَــــى و النـَّاظِـرُ يتبعـُــــهُ
وَ خـَلايا القلبِ تـُودِّعُـــــــــهُ
حَائِـراً يَمْضِي على وَجَـلـِـــــي
أتـُراهُ الحُبّ ُ عذبــَــــهُ "
رفعتْ هــديل رأسها و كل أحاسيسِ الألمِ و الحُزنِِ وَ الصُّدمة، قد حَطّت رحَالها على قلبها، مِمَا زاد من آثار التعب و الشحُوب على ملامحها،
و لأن عينيها كانتا غائمتين بالدموع فهي لم تنتبه إلى أن منال كانت تلوح لها من الضفة الأخرى،
أغمضتْ هــديل عَينيها، مُعانقة الأوراق، لتسيل مَوجة ٌ من الدموع الملتهبة على خدّيْهَا الشاحِبتين، و حين فتحتْ عَينيها المُحْمرتين، لمَحتْ يد منـال الملوِّحَةِ لهَا، فقامتْ متجهة ً نحوها و هي تـُلقِي نظرة ً حزينة ً على المَكانِ الذي شهد هذهِ المأساة.
إلـــــــى الحلقــــــــــــة القـادمــــــــــــــــــــة