لا أحبه و لم أحبه يوما.. لذا اتركاني و شأني..
و ارتمت صفاء على سريرها ذو الغطاء الأزرق
نظرت إليها هديل قائلة: بودي أن أصدقك و لكن دموعك هذه هي خير دليل على أنك لست تحبينه فقط و إنما تعشقينه،
لا... لست كذلك، أرجوك هديل أرجوك منال أنا لا أحبه..ثم إني سأتزوج قريبا لذا دعاني و شأني..
ثم غرست و جهها في الوسادة و هي تصيح : لن يفهمني أحد منكما ..
لم تكن منال قد نطقت بكلمة واحدة بعد ،و لكنها جلست على جانب السرير و مررت برفق على شعر صفاء و قالت بكلمات حنونة : لا تخطئي عزيزتي أو تتسرعي ..
لكن صفاء لم تسمح لها بمتابعة حديثها و قالت باكية: لا... لم أتسرع، و أنا واعية كل الوعي بقراري..
ثم إنه غني و لن أجد مثله،
صاحت هديل باستنكار: غني..! منذ متى أصبحت صفاء مادية؟
انتفضت صفاء من السرير موجهة الخطاب لهديل : إذا كنت تؤمنين بالمشاعر فأنا لم أعد كذلك، كما أن الحياة علمتني بأن مفتاح الكمال هو المال، و اسألي منال أليست نظريتي بصحيحة ..؟
أجابت منال مرتبكة : ليس دائما،
ماذا ؟ حسن اشرحي لهديل و لي أيضا لماذا بعد شهر فقط ستتزوجين و من ؟!..غنيا ،
خاطبت هديل منال بصوت أنهكته الصدمة:
ماذا ؟ ستتزوجين ! و بعد شهر؟
استأذنت أم صفاء بالدخول و قدمت للبنات عصيرا باردا، و أخبرت ابنتها أن هناك اتصال لها،
لكن الفتاتين استأذنتا بالانصراف في جو مكهرب..
كانت المحطة مزدحمة و كانت هديل و منال تشقان طريقهما بصعوبة بين المسافرين الذين اصطفوا أمام القطار الذي سرعان ما غادر آخذا معه صفاء التي سافرت فجأة، و تركت صديقتيها لا يعرفان ماذا تخفي خلف قرارها المفاجئ،
انعطفتا بلا وعي إلى الحديقة التي كانت تحب صفاء الجلوس بها.
و جلستا على الكرسي الخشبي قرب البحيرة ..
كانت هديل ذات شعر بني متوسط الطول تجمعه في الغالب و لا تهتم بأن تجعل له شكلا أو لونا مميزا كان قوامها مميزا، ولكنها فتاة عادية في كل شيء: ملامحها لباسها، أسرتها، دراستها.. إلا أنها تملك شخصية طيبة بل قمة في الطيبة.
بعد لحظات صمت تنهدت منال بحزن قائلة: تعلمين هديل، أنت و صفاء لستما مثلي..
التفتت إليها هديل متسائلة: كيف ؟
ابتسمت منال ابتسامة حزينة عكست جانبا آخر من جمالها العذب الذي كانت تتحلى به؛ فقد كانت عيونها الزرقاء و شعرها الأشقر يرسمان لوحة بحرية رائعة،
و استدركت تحاول جمع وعيها: لا عليك مجرد عبارة عابرة لا تأخذيها بعين الاعتبار..
هكذا حاولت منال أن تتخلص من الإحراج الذي ستجنيه من كلامها،
و لكن هديل فهمت ما قصدته منال؛ فصفاء متوسطة الجمال وهديل عادية أما منال فهي بحق فاتنة،
منال لا تصدق نظرات المعجبين لأنها تدري أن ملامحها حاجز أمام الجميع حتى يفكروا بها كشخص، و هديل على النقيض من ذلك، فملامحها هي دائما حاجز أمام الآخرين لمعرفة شخصيتها الطيبة،
لذلك كانا يرون أن قصة صفاء قصة حب مثالية و عفيفة،هذا بالرغم من أن صفاء فتاة مشاكسة إلا أنها في ما يخص المشاعر فقد أثبتت أنها جدية ، لكن هذه النهاية التي ارتسمت لهذا الحب زعزعت كيان هديل و منال،
تنهدت هديل و قالت: منال هل لي أن أسألك ؟
طبعا هديل،
جمعت هديل قدميها على الكرسي و نظرت للبط الذي يعبر البحيرة و قالت: ماذا عن ذلك الشخص الذي حدثتني عنه؟
ارتبكت منال، و بعد لحظة أجابت و على محياها بعض علامات الأسى :
كنت واهمة فقط، فلا داعي أن تسأليني لأنني قررت أن أنسى.
لم تعلق هديل بل لزمت الصمت، الذي قطعته منال قائلة:
فيما يخص لقاء صفاء بعادل فقد عرفت كيف كان بل كل ما دار فيه،
استغربت هديل و قبل أن تستفسر، أخرجت منال من حقيبتها بعض الأوراق، و قالت: هذه نسخة من آخر مذكرة كتبها عادل بعد لقائه بصفاء.
لكن كيف حصلت عليها ؟
اتصلت بأخته التي أخبرتني أن شقيقها سافر للضيعة بعض الوقت، و طلبت لقائي مساء أمس، و أحضرت لي معها هذه النسخة،
و..صمتت منال قليلا ثم أكملت: و هناك خبر آخر،
ما هو ؟ استفسرت هديل و عيناها لم تتجرأ بعد على قراءة محتوى الأوراق،
حسن هديل، عادل مصاب بمرض مزمن في صدره إن لم أقل مميت،
اصفر وجه هديل و ارتعشت الأوراق في يديها،
واستمرت منال في حديثها و الدموع تنساب على وجنتيها:
لا أدري طبيعة المرض بالضبط و لكن أخته تكاد تجن من الصدمة، هو لم يخبر أحدا،
لولا أن شقيقته اطلعت بالفضول إلى دفتر مذكراته لما عرف أحد عن أمر المرض شيئا،
مسحت منال دموعها و التفتت إلى هديل التي تجمدت من الصدمة،و قالت : شئ آخر ، ارتعشت هديل من جديد، و استفسرت بإشارة من ملامحها الشاحبة،
و أجابت منال بتردد: في المذكرة أمور لن تعجبك،
عموما لا تلومي صفاء فمشاعرها تبقى عفيفة برغم كل شئ،
سأتركك تقرئين المذكرة و سأذهب أتمشى قليلا..لن أبتعد،سأكون هناك على الضفة الأخرى من البحيرة،
أشارت هديل برأسها علامة الإيجاب، ثم أخذت الأوراق و بدأت تقرأ:
المذكـــــــرة الأخيــــــرة
كتبت كثيرا في 'مذكرة حياتي' عن طفولتي، دراستي، أحلامي و صداقاتي..،
لكن ربما كل ما حكيته أمام ما سأحكيه في بضعة أسطر، لا يساوي شيئا...
لن أستطيع أن أحكي كل ما حدث عندما جاءت في تلك الساعة التي كانت توافق الظهيرة، حيث كنت واقفا و على غير عادتي تلفحني تارة أشعة شمس قوية و تارة أخرى نسمة دافئة كلما حجبت السحب الربيعية أشعة الشمس الساطعة ، جالسا على كرسي من كراسي الحديقة التي اعتدت أن أراها فيها تطالع دروسها استعدادا لامتحانات الثانوية,
و لن أحكي عن ظروف أصل معرفتي بها، و كيف تبادلنا النظرات بلا معنى، و كيف و كيف...
كنت و حدي و كانت الحديقة شبه مهجورة في مثل هذه الساعة.
لكن مثلما أنا هي، نحب هذه الحديقة، مثلما نحب(...).
كنت مطأطأ الرأس، حينما شعرت باقتراب أحدهم مني، و لكن لم أبالي كأني غفلت عن نسمتها،
وقفت بالقرب مني لألمح ملابس فتاة، لم تكن الثياب بالغريبة علي، و لكن مستحيل!!،
بلا، وقفت و تطلعت لها بقلب يدق بعنف و صحت باسمها (صفاء)،
ابتسمت إلي بعذوبة، ابتسامة أحببتها بالرغم من أنها كانت حزينة.
حامت حولي أفكار لم أعرف ترجمتها أو ترتيبها، فلا أنا كلمتها
يوما في حياتي و لا هي كلمتني، و لا وقفت معها أو بالقرب منها و لو مرة و لاهي فعلت ذلك ,
لم أجد أمام اندهاشي لما أعيشه غير الصمت، قبل أن أحاول أن أستفسر أو أصدق المشهد الماثل أمامي، و الشمس منتصبة فوقنا تمحي ظلي و ظلها كأننا في عالم آخر،
بدأت الحديث، و فجأة، انفجرت بالبكاء، و حاولت أن أهدئ من حالها،
و تحدثت عن أول يوم، و أول نظرة، و أول دمعة و سهر، تحدثت و كأنها تحكي عن سيرة حياتي في غيابها،
بكتْ بكاء وردة تحتضر، و أنا لا زلت ألوذ بالصمت، لا أعرف أمن هول الصدمة، أم من العجز في المخاطبة و الحديث لفتاة تعودت الارتباك و الخجل في مخاطبتها في خيالي، فما عساني في الواقع.
تحدثتْ إلى أن أحسست بالتعب في صوتها و في ذبول عينيها الغائمتين، فوجدتني أقترب منها، إلى...إلى أن ارتمت بين ذراعي في بكاء و أنين شديدين، و قفت إزاءهما مذهولا. فضممتها إلي محاولا أن أستفيق من الصدمة،
لا أذكر في تلك اللحظة سوى أني بعدما تمكنت قليلا من استيعاب حديثها المتقطع، سوى أني اقتربت من أذنها و همستٌ لها قائلا " أنا لا أحبك،"
إلـــــــــــى الحلقـــــــــــــــــة القادمـــــــــــــــة